فصل: سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة عشرة ومائتين وألف:

لم يقع بها شيء من الحوادث التي يعتني بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم.
وفيها في غرة شهر الحجة عزل صالح باشا ونزل الى قصر العيني ليسافر فأقام هناك أياماً وسافر الى الإسكندرية.
ومات بها الإمام العلامة المفيد الفهامة عمدة المحققين والمدققين الصالح الورع المهذب الشيخ عبد الرحمن النحراوي الأجهوري الشهير بمقرى الشيخ عطية، خدم العلم وحضر فضلاء الوقت ودرس وتمهر في المعقول والمنقول ولازم الشيخ عطية الأجهوري ملازمة كلية، وأعاد الدروس بين يديه واشتهر بالمقرئ وبالأجهوري لشدة نسبته الى الشيخ المذكور ودرس بالجامع الأزهر وأفاد الطلبة وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الحفني ولقنه الأذكار، وألبسه الخرقة والتاج وأجازه بالتلقين والتسليك وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات ويلازم المبيت في ضريح الإمام الشافعي في كل ليلة سبت يقرأ مع الحفظة بطول الليل، وكان إنساناً متواضعاً لا يرى لنفسه مقاماً، يحمل طبق الخبز على رأسه ويذهب به الى الفران ويعود به الى عياله فإن اتفق أن أحداً رآه ممن يعرفه حمله عنه وإلا ذهب به ووقف بين يدي الفران حتى يأتيه الدور ويخبز له، وكان كريم النفس جداً يجود وما لديه قليل ولم يزل مقبلاً على شأنه وطريقته حتى نزلت به الباردة وبطل شقه واستمر على ذلك نحو السنة، وتوفي الى رحمة الله تعالى، غفر الله له.
ومات العمدة العلامة والرحلة الفهامة الفقيه الفاضل ومن ليس له في الفضل مناضل الشيخ حسن بن سالم الهواري المالكي أحد طلبة شيخنا الصعيدي لازمه في دروسه العامة، وحصل بجده ما به ناموس جاهه أقامه وبعد وفاة شيخه ولي مشيخة رواق الصعايدة، وساس فيهم أحسن سياسة بشهامة زائدة مع ملازمته للدروس وتكلمه في طائفته مع الرئيس والمرؤوس وكان فيه صلابة زائدة وقوة جنان وشدة تجارى، واشترى خرابة بسوق القشاشين بالقرب من الأزهر وعمرها داراً لسكنه وتعدى حدوده وحاف على أماكن جيرانه، وهدم مكتب المدرسة السنانية، وكان مكتباً عظيماً ذا واجهتين وعامودين وأربع بوائك وزاوية جداره من الحجر النحيت عجيبة الصنعة في البروز والإتقان، فهدمه وأدخله في بنائه من غير تحاش أو خشية لوم مخلوق أو خوف خالق وأوقف أعوانه من الصعايدة المنتسبين للمجاورة، وطلب العلم يسخرون من يمر بهم من حمير الترابين وجمال الأعيان المارين عليهم فيستعملونها في نقل تراب الشيخ لأجل التبرك إما قهراً أو محاباة، ويأخذ من مياسير الناس والسوقة دراهم على سبيل القرض الذي لا يرد، وكذلك المؤن حتى تممها على هذه الصورة وسكن فيها وأحدق به الجلاوزة من الطلبة يغدون ويروحون في الخصومات والدعاوى ويأخذون الجعالات والرشوات من المحق والمبطل، ومن خالف عليهم ضربوه وأهانوه ولو عظيماً من غير مبالاة ولا حياء، ومن اشتد عليهم اجتمعوا عليه من كل فج حتى بوابين الوكائل وسكان الطباق وباعة النشوق وينسب الكل الى الأزهر، ومن عذلهم أو لامهم كفروه ونسبوه الى الظلم والتعدي والاستهزاء بأهل العلم والشريعة وزاد الحال وصار كل من رؤساء الجماعة شيخاً على انفراده يجلس في ناحية ببعض الحوانيت يقضي ويأمر وينهي، وفحش الأمر الى أن نادى عليهم حاكم الشرطة فانكفوا ومرض شيخهم بالتشيخ شهوراً وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات الإمام الفقيه العلامة والفاضل الفهامة عثمان بن محمد الحنفي المصري الشهير بالشامي ولد بمصر وتفقه على علماء مذهبه كالسيد محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ حسن المقدسي والشيخ الوالد وأتقن الآلات ودرس الفقه في عدة مواضع وبالأزهر وانتفع به الناس، وقرأ كتاب الملتقى بجامع قوصون وكان له حافظة جيدة واستحضار في الفروع ولا يمسك بيده كراساً عند القراءة ويلقي التقرير عن ظهر قلب مع حسن السبك، وألف متناً مفيداً في المذهب، ثم حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقطن بالمدينة وطلب عياله في ثاني عام وباع ما يتعلق به وتجرد على المجاورة ولازم قراءة الحديث والفقه بدار الهجرة وأحبه أهل المدينة، وتزوج وولد له أولاد ثم تزوج بأخرى ولم يزل على ذلك حتى توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة.
ومات العمدة الفاضل المفوه النبيه المناضل الحافظ المجود الأديب الماهر صاحب الشيخ شمس الدين بن عبد الله بن فتح الفرغلي المحمدي الشافعي البربائي نسبة الى سبرباي قرية بالغربية قرب طندتا، وبها ولد ونسبه يرجع الى القطب سيدي الفرغلي المحمدي من ولد سيدنا محمد بن الحنفية صاحب أبي تيج من قرى الصعيد، تفقه على علماء عصره وأنجب في المعارف والفهوم وعانى الفنون فأدرك من كل فن الحظ الأوفر، ومال الى فن الميقات والتقاويم فنال من ذلك ما يرومه، وألف في ذلك وصنف زيجاً مختصراً دل على سعة باعه ورسوخه في الفن ومعرفة القواعد والأصول ودقائق الحساب ونهج مسك الأدب والتاريخ والشعر ففاق فيه الأقران ومدح الأعيان، وصاحبناه وساجلناه كثيراً عندما كان يأتينا مصر وبطندتا في الموالد المعتادة، فكان طوداً راسخاً وبحراً زاخراً مع دماثة الأخلاق وطيب الأعراق ولين العريكة وحسن العشرة ولطف الشمائل والطباع، وكان يلي نيابة القضاء ببلده وبالجملة فكان عديم النظير في أقرانه لم أر من يدانيه في أوصافه الجميلة وله مصنفات كثيرة، منها الضوابط الجليلة في الأسانيد العلية ألفه سنة 1177 وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلامة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط، وسليقته في الشعر عذبة رائقة كلامه بديع مقبول في سائر أنواعه من المدح والرثاء والتشبيب والغزل والحماسة والجد والهزل، وله ديوان جمع فيه أمداحه صلى الله عليه وسلم وسماه عقود الفرائد توفي في شهر ربيع الأول من السنة ببلده ودفن هناك رحمه الله تعالى.

.سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة ومائتين وألف:

لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف لها النفوس أو تشتاق إليها الخواطر فتقيد في بطون الطروس سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل وموجبات ترادف البلاء المتراسل ووقوع الإنذارات الفلكية والآيات المخوفة السماوية، وكلها أسباب عادية وعلامات من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات، فبالنظر في ملكوت السموات والأرض يستدلون وبالنجم هم يهتدون، فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي في منتصف شهر الحجة ختان سنة اثنتي عشرة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر، وحضر طائفة الفرنسيس إثر ذلك في أوائل السنة التالية كما سيأتي خبر ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى.

.من مات في هذين العامين ممن له ذكر وشهرة:

مات العمدة العلامة والفقيه الفهامة الشيخ علي بن محمد الأشبولي الشافعي كان والده أحد العدول بالمحكمة الكبرى وكان ذا ثروة وشهرة، ولما كبر ولده المترجم حفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم، وحضر الدروس وتفقه على أشياخ الوقت ولازم الشيخ عيسى البراوي وتمهر في المعقول وأنجب وتصدر ودرس وانتظم في سلك الفضلاء والنبلاء وصار له ذكر وشهرة ووجاهة، ومات والده فأحرز طريفه وتالده وكان لأبيه دار بحارة كتامة المعروفة بالعينية بقرب الأزهر وأخرى عظيمة بقناطر السباع على الخليج وأخرى بشاطئ النيل بالجيزة، فكان ينتقل في تلك الدور ويتزوج حسان النساء مع ملازمته للإقراء والإفادة وحدثته نفسه بمشيخة الأزهر وكان بيده عدة وظائف وتداريس مثل جامع الآثار والنظامية، ولم يباشرها إلا نادراً ويقبض معلومها المرتب لها ولم يزل حتى تعلل وتوفي سنة 111.
ومات الأديب الماهر الصالح الجليس الأنيس السيد ابراهيم بن قاسم ابن محمد بن محمد بن علي الحسني الرويدي المكتب المكنى بأبي الفتح، ولد بمصر كما أخبر عن نفسه سنة 1127 وحفظ القرآن وجوده على الشيخ الحجازي غنام وجود الخط على الشيخ أحمد بن إسمعيل الأفقم على الطريقة المحمدية فمهر فيه، وأجازه فكتب بخطه الحسن الفائق كثيراً من المصاحف والأحزاب والدلائل والأدعية والقطع وأشير إليه بالرياسة في الفن، وكان إنساناً حسناً متمشدقاً يحفظ كثيراً من نوادر الأشعار وغرائب الحكايات وعجائب المناسبات وروايتها على أحسن أسلوب وأبلغ مطلوب وسمعت كثيراً من إنشاده لم يعلق بذهني منها شيء وقد تفرد بمحاسن لم يشاركه فيها أهل عصره، منها صحة الوضع وتكمله على أصوله بغاية التحرير توفي سنة إحدى عشرة رحمه الله تعالى.
ومات النبيه الأريب والفاضل النجيب الناظم الناثر المفوه إسمعيل أفندي بن خليل بن علي بن محمد بن عبد الله الشهير بالظهوري المصري الحنفي المكتب، كان إنساناً حسناً قانعاً بحاله يتكسب بالكتابة وحسن الخط وقد كان جوده وأتقنه على أحمد أفندي الشكري وكتب بخطه الحسن كثيراً من الكتب والسبع المنجيات ودلائل الخيرات والمصاحف، وكان له حاصل يبيع به من القهوة بوكالة البقل بقرب خان الخليلي، وله معرفة جيدة بعلم الموسيقى والألحان وضرب العود وينظم الشعر وله مدائح وقصائد وموشحات توفي رحمه الله تعالى سنة 1211، ومات الأجل الأمثل والوجيه الأوحد المبجل حسين أفندي قلفة الشرقية، والده الأمير عبد الله من مماليك داود صاحب عيار، وتربى المترجم عند محمد أفندي البرقوقي وزوجه ابنته. وعانى قلم الكتابة واصطلاح كتابة الروزنامة ومهر في ذلك، فلما توفي محمد أفندي كتابة الروزنامة قلده قلفة الشرقية، ولم تطل مدى محمد أفندي، ومات بعد شهرين فاستولى المترجم على تعلقاته، وراج أمره واشترى بيتاً جهة الشيخ الظلام وانتقل إليه وسكن به وساس أموره واشتهر ذكره وانتظم في عداد الأعيان واقتنى السراري والجواري والمماليك والعبيد، وكان إنساناً لا بأس به جميل الأخلاق حسن العشرة مع الرفاق مهذب الطباع لين العريكة واقفاً على حدود الشريعة لا يتداخل فيما لا يعنيه مليح الصورة والسيرة، توفي رحمه الله أيضاً سنة 1211.
ومات العمدة العلامة النبيه الفهامة بضعة السلالة الهاشمية وطراز العصابة المطلبية الفصيح المفوه السيد حسين بن عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن أحمد بن أحمد بن حمادة المنزلاوي الشافعي خطيب جامع المشهد الحسيني وأم أبيه السيد عبد الرحمن فاطمة بنت السيد محمد العمري، ومنها أتاه الشرف حضر على الشيخ الملوي والحفني والجوهري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والشيخ البسيوني والشيخ خليل المغربي، وأخذ أيضاً عن سيدي محمد الجوهري الصغير والشيخ عبد الله إمام مسجد الشعراني والشيخ سعودي الساكن بسوق الخشب وتضلع بالعلوم والمعارف، وصار له ملكة وحافظة ولسانة واقتدار تام واستحضار غريب، وينظم الشعر الجيد والنثر البليغ، وأنشأ الخطب البديعة وغالب خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من إنشائه على طريقة لم يسبق إليها، وانضوى الى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته أنواره ومكارمه ويصلي به في بعض الأحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم ويأتي فيهما بمدائح السادات وما تقتضيه المناسبات، توفي في منتصف شهر شعبان من السنة غفر الله لنا وله.

.سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف:

.شهر المحرم سنة 1213:

وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
في يوم الأحد العاشر من شهر محرم الحرام من هذه السنة وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الإسكندرية ومضمونها أن في يوم الخميس ثامنه حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر، وبعد قليل حضر خمسة عشر مركباً أيضاً فانتظر أهل الثغر ما يريدون، وإذا بقارب صغير واصل من عندهم وفيه عشرة أنفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد والرئيس إذ ذاك فيها والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم الآتي ذكره، فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم فأخبروا أنهم انكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم، فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن، فقالت رسل الانكليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه فلم يجيبوهم لذلك وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الانكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية وليقضي الله أمراً كان مفعولاً ثم إن أهل الثغر أرسلوا الى كاشف البحيرة ليجمع العربان ويأتي معهم للمحافظة بالثغر فلما قرئت هذه المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والأراجيف.
ثم ورد في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأول مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأن الناس وسكن القيل والقال، وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتماداً على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.
فلما كان يوم الأربعاء العشرون من الشهر المذكور وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بأن في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيس كثيرة فأرسوا في البحر وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد، فلما نزلوا إليهم عوقوهم عندهم، فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب الى جهة العجمي وطلعوا الى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد، فعندها خرج أهل الثغر وما انضم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا أمكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم، وانهزم الكاشف ومن معه من العربان، ورجع أهل الثغر الى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الإفرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد، كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون وعن أنفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون، فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الأبراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبته طلب أهل الثغر الأمان فأمنوهم، ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فألزمهم بجمع السلاح وإحضاره إليه وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملبوسهم، والجوكار ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك مستديرة في قدر الريال سوداء وحمراء وبيضاء توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظهر الألوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض، ولما وردت هذه الأخبر مصر حصل للناس انزعاج وعول أكثرهم علي الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الأمراء بمصر فإن ابراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان مقيماً بها، واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مكاتبة بخبر هذا الحادث الى اسلامبول وأن مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم، وانفض المجلس على ذلك وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله على طريق البرلياتية بالترياق من العراق وأخذوا في الاستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام، فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن، ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه الى الجسر الأسود فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقه وعلي باشا الطرابلسي وناصف باشا، فإنهم كانوا من أخصائيه ومقيمين معه بالجيزة وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والبارود وسار من البر مع العساكر الخيالة، وأما الرجال وهم الألداشات القلينجية والأروام والمغاربة فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور ولما ارتحل من الجسر الأسود أرسل الى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة طولها مائة ذراع وثلاثون ذراعاً لتنصب على البغاز عند برج مغيزل من البر الى البر، لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل، وذلك بإشارة علي باشا وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع، ظناً منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة، وكان الأمر بخلاف ذلك فإن الفرنسيس عندما ملكوا الإسكندرية ساروا في طريق البر الغربي من غير ممانع، وفي أثناء خروج مراد بك والحركة بدت الوحشة في الأسواق وكثر الهرج بين الناس والأرجاف وانقطعت الطرق وأخذت الحرامية في كل ليلة تطرق أطراف البلد، وانقطع مشي الناس من المرور في الطرق والأسواق من المغرب، فنادى الآغا الوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلاً وتعليق القناديل على البيوت والدكاكين، وذلك لأمرين: الأول ذهاب الوحشة من القلوب وحصول الاستئناس والثاني الخوف من الدخيل في البلد.
وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا الى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا الى فوة ونواحيها والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلاء، وقد كانت الفرنسيس حين دخولهم بالإسكندرية كتبوا مرسوماً وطبعوه وأرسلوا منه نسخاً الى البلاد التي يقدمون عليها تطميناً لهم، ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة الى بولاق، وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين ومعهم منه عدة نسخ ومنهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطة ويعرفون باللغات.
وصورة ذلك المكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية يظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأزابكة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دوتهم، يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعيد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، فإن كانت الأرض المصرية التزاماً للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك، أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلاً إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقاً الى الخلاص ولا يبقى منهم أثر.
المادة الأولى - جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر، المادة الثانية - كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة - كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضاً تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه.
المادة الرابعة - المشايخ في كل بلد يختمون حالاً جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة - الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئناً وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عالي أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.
تحريراً بمعسكر إسكندرية في 13 شهر سيدور سنة 1213 من إقامة الجمهور الفرنساوي، يعني في آخر شهر محرم سنة هجرية اه - بحروفه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا الى نواحي فوة ثم الى الرحمانية.
واستهل شهر صفر سنة 1213 - وفي يوم الأحد غرة شهر صفر وردت الأخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر المصري مع الفرنسيس فلم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية خليل الكردلي وكان قد قاتل في البحر قتالاً عجيباً فقدر الله أن علقت نار بالقلع وسقط منها نار الى البارود فاشتعلت جميعها بالنار واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم وتطايروا في الهواء، فلما عاين ذلك مراد بك داخله الرعب وولى منهزماً وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر ووصلت الأخبار بذلك الى مصر فاشتد انزعاج الناس، وركب ابراهيم بك الى ساحل بولاق وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم، فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق الى شبرا ويتولى الإقامة ببولاق ابراهيم بك وكشافه ومماليكه، وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك تجتمع بالأزهر كل يوم ويقرأون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير ويعملون لهم مجالس بالأزهر وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغير من الأسماء.
وفي يوم الإثنين حضر مراد بك الى بر انبابة وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة الى بشتيل، وتولى ذلك هو وصناجقه وأمراؤه وجماعة من خشداشينه، واحتفل في ترتيب ذلك وتنظيمه بنفسه هو وعلي باشا الطرابلسي ونصوح باشا، وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشأها بالجيزة وأوقفها على ساحل انبابة وشحنها بالعساكر والمدافع فصار البر الغربي والشرقي مملوئين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة، ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك، فإنهم من حين وصول الخبر من الإسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة الى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضاً في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل وأدوات الارتحال، فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقي بمصر منهم واحد.
وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم فأغلق الناس الدكاكين والأسواق وخرج الجميع لبر بولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياماً أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث أن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم، فلم يشح في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه ولكن لم يسعفهم الدهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور وأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف الى القلعة فأنزل منها بيرقاً كبيراً سمته العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة الى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك، وأما مصر فإنها باقية خالية الطرق لا تجد بها أحداً سوى النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، فإنهم مستترون مع النساء في بيوتهم والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش وغلا سعر البارود والرصاص، بحيث يبيع الرطل البارود بستين نصفاً والرصاص بتسعين، وغلا جنس أنواع السلاح وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون الى الله بالنصر، وأقام غيرهم من الرعايا البعض بالبيوت والبعض بالزوايا والبعض بالخيام.
ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول الى بولاق وأقام بها من حين نصب ابراهيم بك العرضي هناك الى وقت الهزيمة سوى القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مكاناً ولا مأوى فيرجعون الى بيوتهم يبيتون بها ثم يصيحون الى بولاق، وأرسل ابراهيم بك الى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقيعان وأولاد علي والهنادي وغيرهم وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوماً فيوماً لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد، وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم.
وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله الى آخره في قتل ونهب وإافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمراء مصر التجار من الإفرنج بمصر فحبسوا بعضهم بالقلعة وبعضهم بأماكن الأمراء وصاروا يفتشون في محلات الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك يفتشون بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس والأديرة على الأسلحة والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود، فيمنعهم الحكام عنهم ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة وقت الفتنة، ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس الى مصر وتختلف الناس في الجهة التي يقصدون المجيء منها فمنهم من يقول إنهم واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، هذا وليس لأحد من أمراء العساكر همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم بالقتال قبل دخولهم وقربهم ووصولهم الى فناء المصر، بل كل من ابراهيم بك ومراد بك جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو.
ولما كان يوم الجمعة سادس الشهر وصل الفرنسيس الى الجسر الأسود وأصبح يوم السبت فوصلوا الى أم دينار، فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم مختالون في رئيسهم مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوهم مرتبكون في رويتهم مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع في عرضي ابراهيم بك أنهم قادمون من الجهتين فلم يأتوا إلا من البر الغربي.
ولما كان وقت القائلة ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي وتقدموا الى ناحية بشتيل بلد مجاورة لانبابة فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي وأبلى الفريقان، وقتل أيوب بك الدفتردار وعبده الله كاشف الجرف وعدة كثيرة من كشاف محمد بك الإلفي ومماليكهم، وتبعهم طابور من الإفرنج في نحو الستة آلاف وكبيره ويزه الذي ولي على الصعيد بعد تملكهم، وأما بونابارته الكبير فإنه لم يشاهد الواقعة بل حضر بعد الهزيمة وكان بعيداً عن هؤلاء بكثير، ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بك ترامى الفريقان بالمدافع وكذلك العساكر المحاربون البحرية وحضر عدة وافرة من عساكر الأرنؤد من دمياط وطلعوا الى انبابة وانضموا الى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس، فلما غاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم يا رب ويا لطيف ويا رجال الله ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرأ ومن يسمع، وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرضي الشرقي ومنهم ابراهيم بك الوالي وشرعوا في التعدية الى البر الغربي في المراكب فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد والمراكب قليلة جداً، فلم يصلوا الى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة به على المحاربين، هذا والريح النكباء اشتد هبوبها وأمواج البحر في قوة اضطرابها والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه من شدة الغبار، وكون الريح من ناحية العدو وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه.
ثم إن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب وتقارب من المتاريس بحيث صار محيطاً بالعسكر من خلفه وأمامه ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع واشتد هبوب الريح وانعقد الغبار وأظلمت الدنيا دخان البارود وغبار الرياح وصمت الأسماع من توالي الضرب بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزلت والسماء عليها سقطت. واستمر الحرب والقتال نحو ثلاثة أرباع ساعة ثم كانت هذه الهزيمة على العسكر الغربي، فغرق الكثير من الخيالة في البحر لإحاطة العدو بهم وظلام الدنيا والبعض وقع أسيراً في أيدي الفرنسيس وملكوا المتاريس، وفر مراد بك ومن معه الى الجيزة فصعد الى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة، ثم ركب وذهب الى الجهة القبلية، وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والأسلحة والفرش ملقاة على الأرض ببر انبابة تحت الأرجل، وكان من جملة من ألقى نفسه في البحر سليمان بك المعروف بالآغا وأخوه ابراهيم بك الوالي فأما سليمان بك فنجا وغرق ابراهيم بك الصغير وهو صهر ابراهيم بك الكبير، ولما انهزم العسكر الغربي حول الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة فقامت فيهم ضجة عظيمة وركب في الحال ابراهيم بك والباشا والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئاً، فأما ابراهيم بك والباشا والأمراء فساروا الى جهة العادلية وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين الى جهة المدينة ودخلوها أفواجاً أفواجاً، وهم جميعاً في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك وهم يضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون الى الله من شر هذا اليوم العصيب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت وقد كان ذلك قبل الغروب، فلما استقر ابراهيم بك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه وكذلك من كان معه من الأمراء فأركبوا النساء بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال والبعض على الحمير والجمال والبعض ماش كالجواري والخدم، واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه، ولا يسأل أحد عن أحد بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة ممتثلاً للقضاء متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور، والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الإفرنج عدوا الى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة وأن أولهم وصل الى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء، وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية من عسكر مراد بك الذي كان في الغليون بمرسي انبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه وكذلك مراد بك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه الى جهة قبلي، فمشوا به قليلاً ووقف لقلة الماء في الطين وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانة فأمر بحرقه أيضاً، فصعد لهيب النار من جهة الجيزة وبولاق ظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهروب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون وبيع الحمار الأعرج أو البغل الضعيف بأضعاف ثمنه وخرج أكثرهم ماشياً أو حاملاً متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها ومن قدر على مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصحبها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئاً كثيراً يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التي خرجت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك، لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس وأصحاب المقدرة أخرجوا أيضاً ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع من قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، فما راء كم سمعا، ولما أصبح يوم الأحد المذكور والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع فتبين أن الإفرنج لم يعدوا الى البر الشرقي وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة الى الإفرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعاد فأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة، وضمنهم وبش في وجوههم فقالوا: نريد أماناً منكم، فقال: أرسلنا لكم سابقاً يعنون الكتاب المذكور فقالوا وأيضاً لأجل اطمئنان الناس، فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها: من معسكر الجيزة خطاباً لأهل مصر، إننا أرسلنا لكم ف يالسابق كتاباً فيه الكفاية وذكرنا لكم أننا حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا الى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق أحد منهم بالقطر المصري، وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين الى آخر ما ذكرته، ثم قال لهم: لابد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديواناً ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور، ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون الى الجيزة فتلقاهم وضحك لهم، وقال: إنتم المشايخ الكبار فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا فقال: لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وأجراء الشريعة، فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا الى مصر، واطمأن برجوعهم الناس وكانوا في وجل وخوف على غيابهم وأصبحوا فأرسلوا الأمان الى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية، وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر وكذلك الروزنامجي والأفندية وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت ابراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما، ونهبوا أيضاً عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان. تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك، لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس وأصحاب المقدرة أخرجوا أيضاً ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع من قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، فما راء كم سمعا، ولما أصبح يوم الأحد المذكور والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع فتبين أن الإفرنج لم يعدوا الى البر الشرقي وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة الى الإفرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعاد فأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة، وضمنهم وبش في وجوههم فقالوا: نريد أماناً منكم، فقال: أرسلنا لكم سابقاً يعنون الكتاب المذكور فقالوا وأيضاً لأجل اطمئنان الناس، فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها: من معسكر الجيزة خطاباً لأهل مصر، إننا أرسلنا لكم ف يالسابق كتاباً فيه الكفاية وذكرنا لكم أننا حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا الى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق أحد منهم بالقطر المصري، وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين الى آخر ما ذكرته، ثم قال لهم: لابد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديواناً ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور، ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون الى الجيزة فتلقاهم وضحك لهم، وقال: إنتم المشايخ الكبار فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا فقال: لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وأجراء الشريعة، فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا الى مصر، واطمأن برجوعهم الناس وكانوا في وجل وخوف على غيابهم وأصبحوا فأرسلوا الأمان الى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية، وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر وكذلك الروزنامجي والأفندية وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت ابراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما، ونهبوا أيضاً عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان.
وفي يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية الى بر مصر وسكن بونابارته ببيت محمد بك الالفي بالأزبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه أموالاً عظمية وفرشه بالفرش الفاخرة، وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحادثة فأخلوه وتركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس، وكذلك حصل في بيت حسن كاشف جركس بالناصرية، ولما عدى كبيرهم وسكن بالأزبكية كما ذكر استمر غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعديل، صاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبهافي ثمنها ريال فرانسة، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياساً على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم، فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان والبن وصاروا يبيعون عليهم بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوق الحوانيت والقهاوي.
وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر أرسلوا بطلب المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صاري عسكر فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم وتشاوروا معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات.
فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي والشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبرخيتي والشيخ محمد الدواخلي وحضر ذلك المجلس أيضاً مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضي وقلدوا محمد آغا المسلماني أغات مستحفظان وعلي آغا الشعراوي والي الشرطة وحسن آغا محرم أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا محمد بك كتخدا بونابارته ومن أرباب المشورة الخواجا موسى كانوا وكلاء الفرنساوي ووكيل الديوان حنا بينو.
وفيه اجتمع أرباب الديوان عند رئيسه فذكر لهم ما وقع من نهب البيوت فقالوا له هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس فقال لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا هذا أمر لا قدرة لنا على منعه وإنما ذلك من وظيفة الحكام، فأمروا الآغا والوالي أن ينادوا بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يسمعوا ولم ينتهوا واستمر غالب الدكاكين والأسواق معطلة والناس غير مطمئنين، وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلوقة التي للأمراء ودخلوها وأخذوا منها أشياء وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية ويستأصلون ما فيها، واستمروا على ذلك عدة أيام ثم أنهم تتبعوا بيوت الأمراء وأتباعهم وختموا على بعضها وسكنوا بعضها، فكان الذي يخاف على داره من جماعة الوجاقلية أو من أهل البلد يعلق له بنديرة على باب داره أو يأخذ له ورقة من الفرنسيس بخطهم يلصقها على داره.
وفيه قلدوا برطلمين النصراني الرومي وهو الذي تسميه العامة فرط الرمان كتخدا مستحفظان وركب بموكب من بيت صاري عسكر وأمامه عدة من طوائف الأجناد والبطالين مشاة بين يده وعلى رأسه حشيشة من الحرير الملون وهو لابس فروة بزعادة وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة ورتب له بيوك باشي وقلقات عينوا لهم مراكز باخطاط البلد يجلسون بها، وسكن المذكور ببيت يحيى كاشف الكبير بحارة عابدين أخذه بما فيه من فرش ومتاع وجواري وغير ذلك، والمذكور من أسافل نصارى الأروام العسكرية القاطنين بمصر، وكان من الطبجية عند محمد بك الالفي، وله حانوت بخط الموسكي يبيع فيه القوارير الزجاج أيام البطالة، وقلدوا أيضاً شخصاً افرنجياً وجعلوه أمين البحرين وآخر جعلوه آغات الرسالة وجعلوا الديوان ببيت قائد آغا بالأزبكية قرب الرويعي، وسكن به رئيس الديوان وسكن روتوي قائمقام مصر ببيت ابراهيم بك الوالي المطل على بركة الفيل وسكن شيخ البلد ببيت ابراهيم بك الكبير وسكن مجلون ببيت مراد بك على رصيف الخشاب وسكن بوسليك مدير الحدود ببيت الشيخ البكري القديم، ويجتمع عنده النصارى القبط كل يوم وطلبوا الدفاتر من الكتبة، ثم إن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا علي أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك، وفتح نصارى الأروام عدة دكاكين لبيع أنواع الأشربة وخمامير وقهاوي، وفتح بعض الإفرنج البلدين بيوتاً يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرائقهم في بلادهم، فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخه الطباخون ويصنعون أنواع الأطعمة والحلاوات ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم فإذا مرت طائفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا الى ذلك المكان وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى، وعلى كل مجلس علامته ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه، فيدخلون الى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام وحولها كراسي، فيجلسون عليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
وفيه تشفع أرباب الديوان في أسرى المماليك فقبلوا شفاعتهم وأطلقوهم فدخل الكثير منهم الى الجامع الأزهر وهم في أسوأ حال وعليهم الثياب الزرق المقطعة، فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء المجاورين به ويتكففون المارين وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وفي يوم السبت اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة وهي مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام، وتجار الافرنج أيضاً فسألوا التخفيف فلم يجابوا فأخذوا في تحصيلها.
وفيه نادوا من أخذ شيئاً من نهب البيوت يحضر به الى بيت قائمقام وإن لم يفعل وظهر بعد ذلك حصل له مزيد الضرر ونادوا أيضاً على نساء الأمراء بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن وإن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يظهرنه فإن لم يكن عندهن شيء من منتاع أزواجهن يصالحن على أنفسهن ويأمن في دورهن فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بك وصالحت على نفسها وأتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون ألف ريال فرانسا. وأخذت في تحصيل ذلك من نفسها وغيرها ووجهوا عليها الطلب، وكذلك بقية النساء بالوسائط المتداخلين في ذلك كنصارى الشوام والإفرنج البلديين وغيرهم فصاروا يعملون عليهن إرهاصات وتخويفات، وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختفين والغائبين والفارين، فجمعوا بذلك أموالاً كثيرة، وكتبوا للغائبين أوراقاً بالأمان بعد المصالحة ويختم على تلك الأوراق المتقيدون بالديوان.
وفي يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئاً كثيراً وكذلك الأبقار والأثوار، فحصل فيها أيضاً مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى، ويستخرجون الخبايا والودائع ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت أسيادهم بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها أغراضهم.
وفيه قبضوا على شيخ الجعيدية ومعه آخر وبندقوا عليهما بالرصاص ببركة الأزبكية ثم على آخرين أيضاً بالرميلة وأحضر النهابون أشياء كثيرة من الأمتعة التي نهبوها عندما داخلهم الخوف ودا على بعضهم البعض.
وفي يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسلفة مبلغاً يعجزون عنه وأجلوا لها أجلاً مقداره ستون يوماً فضجوا واستغاثوا وذهبوا الى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني وتشفعوا بالمشايخ فتكلموا لهم ولطفوها الى النصف المطلوب ووسعوا لهم في أيام المهلة.
وفيه شرعوا في تكسير أبواب الدروب والبوابات النافذة وخرج عدة من عساكرهم يخلعون ويقلعون أبواب الدروب والعطف والحارات، فاستمروا على ذلك عدة أيام وداخل الناس من ذلك وهم وخوف شديد وظنوا ظنوناً وحصل عندهم فساد مخيلة ووسوسة تجسمت في نفوسهم بألفاظ نطقوا بها وتصوروا حقيقتها وتناقلوها فيما بينهم، كقولهم إن عساكر الفرنسيس عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة، ومنهم من يقول غير ذلك، وذلك بعد أن كان حصل عندهم بعض اطمئنان وفتحوا بعض الدكاكين فلما حصلت هاتان النكتتان انكمش الناس ثانية وارتجفت قلوبهم.
وفي عشرينه حضرت مكاتيب الحجاج من العقبة فذهب أرباب الديوان الى باش العسكر وأعلموه بذلك وطلبوا منه أماناً لأمير الحاج فامتنع وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر، فقالوا له: ومن يوصل الحجاج؟ فقال لهم: أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكر يوصلونهم الى مصر، فكتبوا لأمير الحاج مكاتبة بالملاطفة وأنه يحضر بالحجاج الى الدار الحمراء وبعد ذلك يحصل الخير، فلم تصل إليهم الجوابات حتى كاتبهم ابراهيم بك يطلبهم للحضور الى جهة بلبيس فتوجهوا على بلبيس وأقاموا هناك أياماً وكان ابراهيم بك ومن معه ارتحل من بلبيس الى المنصورة وأرسلوا الحريم الى القرين، وفي ثالث عشرينه خرجت طائفة من العسكر الفرنساوي الى جهة العادلية وصار في كل يوم تذهب طائفة بعد أخرى ويذهبون الى جهة الشرق، فلما كان ليلة الأربعاء خرج كبيرهم بونابارته وكانت أوائلهم وصلت الى الخانكة وأبي زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا، فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا الى بلبيس، وأما الحجاج فإنهم نزلوا ببلبيس واكترت حجاج الفلاحين مع العرب فأوصلوهم الى بلادهم بالغربية والمنوفية والقليبونجية وغيرها، وكذلك فعل الكثير من الحجاج فتفرقوا في البلد بحريمهم ومنهم من أقام ببلبيس وأما أمير الحاج صالح بك فإنه لحق بابراهيم بك وصحبته جماعة من التجار وغيرهم وفي ثامن عشرينه ملك الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال وبها من بقي من الحجاج فلم يشوشوا عليهم وأرسلوها الى مصر وصحبتهم طائفة من عساكرهم ومعهم طبل، فلما كان ليلة الأحد غايته جاء الرائد الى الأمراء بالمنصورة وأخبرهم بوصول الإفرنج وقربهم منهم فركبوا نصف الليل وترفعوا الى جهة القرين وتركوا التجار وأصحاب الأثقال، فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان واتفقوا معهم على أنهم يحملونهم الى القرين وحلفوا لهم وعاهدوهم على أنهم لا يخونونهم، فلما توسطوا بهم الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حملوهم وتقاسموا متاعهم وعروهم من ثيابهم وفيه كبير التجار السيد أحمد المحروقي، وكان ما يخصه نحو ثلثمائة ألف ريال فرانسة نقوداً ومتجراً م جميع الأصناف الحجازية وصنعت العرب معهم ما لا خير فيه ولحقهم عسكر الفرنساوية، فذهب السيد أحمد المحروقي الى صاري العسكر وواجهه وصحبته جماعة من العرب المنافقين، فشكا له ما حل به وبإخوانه فلامهم على تنقلهم وركونهم الى المماليك والعرب، ثم قبض على أبي خشبة شيخ بلد القرين وقال له: عرفني عن مكان المنهوبات، فقال: أرسل معي جماعة الى القرين، فأرسل معه جماعة دلهم على بعض الأحمال فأخذها الإفرنج ورفعوها ثم تبعوه الى محل آخر، فأوهمهم أنه يدخل ويخرج إليهم أحمالاً كذلك فدخل وخرج من مكان آخر وذهب هارباً، فرجع أولئك العسكر بجمل ونصف جمل لا غير وقالوا: هذا الذي وجدناه والرجل فر من أيدينا، فقال صاري عسكر: لابد من تحصيل ذلك فطلبوا منه الإذن في التوجه الى مصر فأصحب معهم عدة من عسكره أوصلوهم الى مصر وأمامهم طبل وهم في أسوأ حال، وصحبتهم أيضاً جماعة من النساء اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة وهن أيضاً في أسوأ حالة تسكب عند مشاهدتهن العبرات.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الاثنين سنة 1213.
في ثانيه وصل الفرنساوية الى نواحي القرين وكان ابراهيم بك ومن معه وصلوا الى الصالحية وأودعوا مالهم وحريمهم هناك وضمنوا عليها العربان وبعض الجند، فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة فركب صاري عسكر وأخذ معه الخيالة وقصد الإغارة على الحملة، وعلم ابراهيم بك بذلك أيضاً فركب هو وصالح بك وعدة من الأمراء والمماليك وتحاربوا معهم ساعة أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول، وإذا بالخبر وصل الى ابراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها فعند ذلك فر بمن معه على إثره، وتركوا قتال الفرنسيس ولحقوا بالعرب وجلوهم عن متاعهم، وقتلوا منهم عدة وارتحلوا الى قطيا، ورجع صاري عسكر الى مصر وترك عدة من عساكره متفرقين في البلاد فدخل مصر ليلاً وذلك ليلة الخميس رابعه.
وفي يوم الجمعة خامسه لثالث عشر مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك، فأمر صاري عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين ونادوا على الناس بالخروج الى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم، أرسل صاري عسكر أوراقاً لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صحبها، وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره الى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطاً حتى جرى الماء في الخليج، وركب وهم صحبته حتى رجع الى داره، وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أحد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها.
وفيه تواترت الأخبار بحضور عدة مراكب من الانكليز الى ثغر الإسكندرية وأنهم حاربوا مراكب الفرنساوية الراسية بالمينا وكانت أشيعت هذه الأخبار قبل وتحدث الناس بها، فصعب ذلك على الفرنساوية واتفق أن بعض نصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزر ومن أعيان التجار بوكالة الصابون أنه تحدث بذلك، فأمروا بإحضاره وذكروا له ذلك فقال أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني، فأحضروه أيضاً وأمروا بقطع لسانيهما أو يدفع كل واحد منهما مائة ريال فرانسة نكالاً لهما وزجراً عن الفضول فيما لا يعنيهما، فتشفع المشايخ فلم يقبلوا فقال بعضهم أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم، فلم يرضوا، فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي وأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة فلما قبضها الوكيل ردها ثانياً إليه وقال فرقها على الفقراء، كما أشار وردها الى صاحبها، فانكف الناس عن التكلم في شأن ذلك، والواقع أن الانكليز حضروا في أثرهم الى الثغر وحاربوا مراكبهم فنالوا منهم وأحرقوا لقايق الكبير المسمى بنصف الدنيا وكان به أموالهم وذخائرهم وكان مصفحاً بالنحاس الأصفر واستمر الانكليز بمراكبهم بميناء الإسكندرية يغدون ويروحون يرصدون الفرنسيس، وفي ذلك اليوم سافر عدة من عساكرهم الى بحري والى الشرقية، ولما جرى الماء في الخليج منعوا دخول الماء الى بركة الأزبكية وسدوا قنطرة الدكة بسبب وطاقهم ومدافعهم وآلتهم التي فيها، وفيه سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال فلم يقبل، وقال لابد من ذلك وأعطى له ثلثمائة ريال فرانسا معاونة وأمر بتعلق تعاليق وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم وأرسل الطبلخانة الكبيرة الى بيت الشيخ البكري واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية وعدة آلات ومزامير مخلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليفعها الى النقيب.
وفيه ورد الخبر بأن ابراهيم بك والأمراء المصرية استقروا بغزة.
وفي خامس عشره سافر عدة كبيرة من عسكر الفرنساوية الى جهة الصعيد وكبيرهم ديزه وصحبتهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات.
وفي حضر القاصد الذي كان أرسله كبير الفرنساوية بمكاتبات وهدية الى أحمد باشا الجزار بعكا وذلك عند استقرارهم بمصر وصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار ومعهم جانب أرز، ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفائن أحمد باشا فلما وصلوا الى عكا وعلم بها أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه الى بعض النقاير ولم يواجهه ولم يأخذ منه شيئاً وأمره بالرجوع من حيث أتى وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.
وفيه حضر جماعة من عسكر الفرنساوية الى بيت رضوان كاشف بباب الشعرية وصحبتهم ترجمان ومهندس، فانزعجت زوجته وكان قبل ذلك بأيام صالحت على نفسها وبيتها بألف ريال وثلثمائة ريال وأخذت منهم ورقة ألصقتها على باب دارها، وردت ما كانت وزعته من المال والمتاع عند معارفها واطمأنت، فلما حضر إليها الجماعة المذكورون قالوا لها بلغ صاري عسكر أن عندك أسلحة وملابس للماليك، فأنكرت ذلك فقالوا لازم من التفتيش فقالت دونكم فطلعوا من مكان وفتحوا مخبأة فوجدوا بها أربعة وعشرين شروالاً وبلكات وأمتعة وغير ذلك ووجدوا في أسلفها مخبأة أخرى بها عدة كثيرة من الطبنجات والأسلحة والبنادق وصناديق بارود وغير ذلك، فاستخرجوا جميع ذلك ثم نزلوا الى تحت السلالم وفجروا الأرض وأخرجوا منها دراهم كثيرة وحجاب ذهب في داخله دنانير، ثم أنزلوا صاحبة الدار ومعها جارية بيضاء وأخذوهما مع الجواري السود وذهبوا بهن، فأقمن عندهم ثلاثة أيام ونهبوا ما وجدوه بالدار من فرش وأمتعة ثم قرروا عليها أربعة آلاف ريال أخرى قامت بدفعها وأطلقوها، ورجعت الى دارها، وبسبب هذه الحادثة شددوا في طلب الأسلحة ونادوا بذلك، وإنهم بعد ثلاثة أيام يفتشون البيوت، وقال الناس إن هذه حيلة على نهب البيوت، ثم بطل ذلك وحصل بينها وبين مباشرها القبطي منافسة فذهب وأغرى بها ودل على ذلك.
وفي عشرينه قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على إمارة الحاج فحضروا الى المحكمة عند القاضي ولبس الخلعة بحضرة مشايخ الديوان والتزم بونابارته بتشهيل مهمات الحج وعمل محلاً جديداً.
وفيه سأل أصحاب الحصص الالتزام في التصرف في حصصهم فطلبوا منهم حلواناً فلم يرتضوا بذلك، فواعدهم لتمام التحرير والإملاء، وقالوا كل من كان له التزام وتقسيط ناطق باسمه يحضره ويمليه ففعلوا ذلك في عدة أيام.
وفيه قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد ونشروا بذلك أوراقاً وذكروا فيها أنها تحسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط.
وفيه طلب صاري عسكر بونابارته المشايخ فلما استقروا عنده نهض بونابارته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة ألوان كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي، فوضع منها واحداً على كتف الشيخ الشرقاوي فرمى به الى الأرض واستفى وتغير مزاجه ونزلوا في البلاد مثل الحكام يحبسون ويضربون ويشددون في الطلب، وانتقع لونه واحتد طبعه، فقال الترجمان يا مشايخ أنتم صرتم أحباباً لصاري عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قلوبهم، فقالوا له لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين، فاغتاظ لذلك وتكلم بلسانه وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي إنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك فلاطفه بقية الجماعة واستعفوه من ذلك، فقال إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكار في صدوركم وهي العلامة التي يقال لها الوردة فقالوا أمهلونا حتى نتروى في ذلك واتفقوا على اثني عشر يوماً.
وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات باستدعاء فصادفهم منصرفين، فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صاري عسكر ولاطفه في القول الذي يعربه الرجمان وأهدى له خاتم الماس وكلفه الحضور في الغد عنده وأحضر له جوكار وأوثقه بفراجته فسكت وسايره وقام وانصرف، فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين.
وفي ذلك اليوم نادى جماعة القلقات على الناس بوضع العلامات المذكورة المعروفة بالوردة وهي إشارة الطاعة والمحبة، فأنف غالب الناس من وضعها وبعضهم رأى أن ذلك لا يخل بالدين إذ هو مكره وربما ترتب على عدم الامتثال الضرر فوضعها، ثم في عصر ذلك اليوم نادوا بإبطالها من العامة وألزموا بعض الأعيان ومن يريد الدخول عندهم لحاجة من الحاجات بوضعها فكانوا يضعونها إذا حضر عندهم ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم وذلك أيام قليلة وحصل ما يأتي ذكره فتركت.
وفي أواخره كانت انتقال الشمس لبرج الميزان وهو الاعتدال الخريفي، فشرع الفرنساوية في عمل عيدهم ببركة الأزبكية، وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهور ببلادهم فجعلوا ذلك اليوم عيداً وتاريخاً، فنقلوا أخشاباً وحفروا حفراً وأقاموا بوسط بركة الأزبكية صارياً عظيماً بآلة وبناء وردموا حوله تراباً كثيراً عالياً بمقدار قامة وعملوا في أعلاه قالباً من الخشب محدداً لأعلى مربع الأركان ولبسوا باقيه على سمت القالب قماشاً ثخيناً طلوه بالحمرة الجزعة وعملوا أسفله قاعدة نقشوا عليها تصاوير سواد في بياض ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري وفي أعلى القوصرة طلاء أبيض وبه تصاوير بالأسود مصور فيه مثل حرب المماليك المصرية معهم وهم في شبه المنهزمين، بعضهم واقع على بعض وبعضهم ملتفت الى خلف وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء الى البركة مثال بوابة أخرى على غير شكلها لأجل حراقة البارود، وأقاموا أخشاباً كثيرة منتصبة مصطفة منها الى البوابة الأخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم فضاء البركة بحيث صار عمود الصاري الكبير المنتصف المذكور في المركز، وربطوا بين تلك الأخشاب حبالاً ممتدة وعلقوا بها صفين من القناديل، وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود أيضاً وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء سنة 1213، فيه وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغهم ورود الفرنسيين عليهم رجعوا الى جهة الفيوم، وأن عثمان بك الأشقر عدى الى البر الشرقي وذهب من خلف الجبل الى أستاذه ابراهيم بك بغزة، وخرج جماعة من الفرنساوية الى جهة الشرق ومعهم عدة جمال وأحمال فخرج عليهم الغزو العرب الذين يصحبونهم فأخذوا منهم عدة جمال بأحمالها ولم يلحقوهم.
وفي ثالثه حشرت مكاتبة من ابراهيم بك خطاباً للمشايخ وغيرهم، مضمونها أنكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية، وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله تعالى عن قريب نحضر عندكم، فلما وردت تلك المكاتبة وقد كان سأل عنها بونابارته فأرسلوها له وقرئت عليه فقال: المماليك كذابون، ووافق أيضاً أنه حضر آغا رومي وكان معوقاً بالإسكندرية، فمر بالشارع وذهب لزيارة المشهد الحسيني فشاهده الناس فاستغربوا هيئته وفرحوا برؤيته وقالوا هذا رسول الحي حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرهم بالخروج من مصر، واختلفت رواياتهم وآراؤهم وأخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبعوا بعضهم بعضاً، وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب من المشايخ أيضاً وأخفوه، فركب من فوره وحضر الى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة ولم يكن تقدم له مجيء وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر، فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيئه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة، فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب، فقال: لا علم لي بذلك ولم يكن بلغه الخبر، ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون، فلما نظروه وشاهد هو جمعيتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا بأجمعهم وقالوا بصوت عال: الفاتحة، فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول وقالوا له إنهم يدعون لك، وذهب الى داره وكانت نكتة غريبة وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشأ منها فنتة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب غير النافذة أيضاً ونقلوا الجميع الى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين ويرفعونها بالعتالين الى هناك، فاجتمع من ذلك شيء كثير جداً وامتلأ من رصيف الخشاب الى قريب وسط البركة.
وفي يوم السب حادي عشره كان يوم عيدهم الموعود به، فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة. وضعوا على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة وضربوا طبولهم، واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة واصطفوا صفوفاً على طرائقهم المعروفة بينهم، ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام، فاجتمعوا ببيت صاري عسكر بونابارته وجلسوا حصة من النهار ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار، ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على أكتافها الى أكمامها وعلى صدره شمسات قصب بأزرار وكذلك فلتيوس وتعمموا بالعمائم الكشميري، وركبوا البغال الفارهة، وأظهروا البشر والسرور في ذلك اليوم الى الغاية، ثم نزل عظماؤهم وصحبتهم المشايخ والقاضي وكتخدا الباشا فركبوا وذهبوا عند الصاري الكبير الموضوع بوسط البركة وقد كانوا فرشوا في أسفله بسطاً كثيرة، ثم إن العساكر لعبوا ميدانهم وعملوا هيئة حربهم وضربوا البنادق والمدافع، فلما انقضى ذلك اصطفت العساكر صفوفاً حول ذلك الصاري وقرأ عليهم كبير قسوسهم ورقة بلغتهم لا يدري معناها الأهم وكأنها كالوصية أو النصيحة أو الوعظ، ثم قاموا وانفض الجمع ورجع صاري عسكر الى داره فمد سماطاً عظيماً للحاضرين فلما كان الغروب أوقدوا جميع القناديل التي على الحبال والتماثيل والأحمال التي على البيوت، وعند العشاء عملوا حراقة بارود وسواريخ ونفوط وشبه سواقي ودواليب من قار ومدافع كثيرة نحو ساعتين من الليل واستمرت القناديل موقدة حتى طلع النهار، ثم فكوا الحبال والتعاليق والتماثيل المصنوعة وبقيت البوابات المقابلة لباب الهواء والصاري الكبير وتحته جماعة ملازمون الإقامة عنده ليلاً ونهاراً من عساكرهم لأنه شعارهم وإشارة الى قيام دولتهم في زعمهم.
وفي ثاني ليلة منه ركب كبيرهم الى بر الجيزة وسفر عساكر الى الجهة التي بها مراد بك وكذلك الى جهة الشرقية ومعهم مدافع على عجل، وفيه أرسل دبوي قائمقام الى الست نفيسة وطلب منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجي فأرسلت الى المشايخ تستغيث بهم، فحضر إليها الشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي وقصدوا منعها فلم يمكنهم فذهبوا صحبتها ونظروا في قصتها، والسبب في طلبها أنهم وجدوا رجلاً فراشاً معه جانب دخان وبعض ثياب فقبضوا عليه وقرروه، فأخبر أنه تابعها وأنها أعطته ذلك ووعدته بالرجوع إليها لتسلمه شبكي دخان وفروة وخمسمائة محبوب ليوصل ذلك الى سيده، فهذا هو السبب في طلبها، فقالوا وأين الفراش فبعثوا لإحضاره، وسألوها فأنكرت ذلك بالمرة فانتظروا حضور الفراش الى بعد الغروب فلم يحضر، فقال لهم المشايخ: دعوها تذهب الى بيتها وفي غد تأتي وتحقق هذه القضية، فقال: دبوي نو نو، ومعناه بلغتهم النفي أي لا تذهب، فقالوا له: دعها تذهب هي ونحن نبيت عوضاً عنها فلم يرض أيضاً، وعالجوا في ذلك بقدر طاقتهم فلما أيسوا تركوها ومضوا، فباتت عندهم في ناحية من البيت وصحبتها جماعة من النساء المسلمات والنساء الإفرنجيات، فلما أصبح النهار ركب المشايخ الى كتخدا الباشا والقاضي فركبا معاً وذهبا الى بيت صاري عسكر الكبير فأحضرها وسلمها الى القاضي، ولم يثبت عليها شيء من هذه الدعوة، وقرروا عليها ثلاثة آلاف ريال فرانسة وذهبت الى بيت لها مجاور لبيت القاضي وأقامت فيه لتكون في حمايته.
وفي يوم الخميس نادوا في الأسواق بأن كل من كان عنده بغلة يذهب بها الى بيت قائمقام ببركة الفيل ويأخذ ثمنها، وإذا لم يحضرها بنفسه تؤخذ منه قهراً ويدفع ثلثمائة ريال فرانسا، وكان أحضرها باختياره يأخذ في ثمنها خمسين ريالاً قلت قيمتها أو كثرت، فغنم صاحب الخسيس وخسر صاحب النفيس، ثم ترك ذلك، وفيه نادوا بوقود قناديل سهارى بالطرق والأسواق وأن يكون على كل دار قنديل وعلى كل ثلاثة دكاكين قنديل وأن يلازموا الكنس والرش وتنظيف الطرق من العفوشات والقاذورات.
وفيه نادوا على الأغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين البطالين ليسافروا الى بلادهم وكل من وجد بعد ثلاثة أيام يستأهل الذي يجري عليه وكرروا المناداة بذلك وأجلوهم بعدها أربعة وعشرين ساعة، فذهبت جماعة من المغاربة الى صاري عسكر وقالوا له أرنا طريقاً للذهاب فإن طريق البر غير مسلوكة والانكليز واقفون بطريق البحر يمنعون المسافرين ولا نقدر على المقام في الإسكندرية من الغلاء وعدم الماء بها فتركهم.
وفيه جعلوا ابراهيم آغات المتفرقة المعمار قبطان السويس وسافر معه أنفار ببيرق فرنساوي فخرج عليهم العربان في الطريق فنهبوهم وقتلوا ابراهيم آغا المذكور ومن بصحبته، ولم يسلم منهم إلا القليل، وفيه أهمل أمر الديوان الذي يحضره المشايخ ببيت قائد آغا فاستمروا أياماً يذهبون فلم يأتهم أحد فتركوا الذهاب فلم يطلبوا.
وفيه شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا وكتبوا في شأن ذلك طوماراً. وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي الذي كان كاتباً عند أيوب بك الدفتردار، وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركاناً من البدع السيئة، وكتبوا نسخاً من ذلك كثيرة أرسلوا منها الى الأعيان ولصقوا منها نسخاً في مفارق الطرق ورؤوس العطف وأبواب المساجد، وشرطوا في ضمنه شروطاً وفي ضمن تلك الشروط شروطاً أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية، ومحصله التحيل على أخذ الأموال كقولهم بأن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها إما بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث، لا يكتفي بذلك بل يؤمر بالكشف عليها في السجلات ويدفع على ذلك الكشف دراهم بقدر عينوه في ذلك الطومار، فإن وجد تمسكه مقيداً بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقبوله قدراً آخر ويأخذ بذلك تصحيحاً، ويكتب له بعد ذلك تمكين، وينظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم، وهذا شيء متعذر، وذلك أن الناس إنما وضعوا أيديهم على أملاكهم إما بالشراء أو بأيولتها لهم من مورثهم أو نحو ذلك بحجة قريبة أو بعيدة العهد أو بحجج أسلافهم ومورثيهم، فإذا طولبوا باثبات مضمونها تعسر أو تعذر لحادث الموت أو الأسفار أو ربما حضرت الشهود فلم تقبل، فإن قبلت فعل به ما ذكر، ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوماً لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضاً ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقرراً أو كذلك على ثبوت الوراثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدعي ديناً على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على إثباته مقرر أو يأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه رفع مقرراً أيضاً، ومثل ذلك في الرزق والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئية والكليات، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدراً، وكذلك المولود إذا ولد ويقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.
وفي نادى أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم.
وفيه نهبوا أمتعة عسكر القلينجية الذين كانوا عسكراً عند الأمراء فأخذوا مكاناً بوكالة علي بك بساحل بولاق وبالجمالية وأخذوا متاعهم ومتاع شركائهم محتجين بأنهم قاتلوا مع المماليك وهربوا معهم.
وفيه أحضروا محمد كتخدا أبا سيف الذي كان سرداراً بدمياط من طرف الأمراء المصريين وكان سابقاً كتخدا حسن بك الجداوي فلما حضر حبسوه في القلعة وحبسوا معه فراشاً لابراهيم بك.
وفيه أمروا سكان القلعة بالخروج من منازلهم والنزول الى المدينة ليسكنوا بها، فنزلوا وأصعدوا الى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدموا بها أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار، وهدموا أبنية عالية وأعلوا مواضع منخفضة، وبنوا على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها وأبدلوا محاسنها ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحكماء والعظماء، وما كان في الأبواب العظام من الأسلحة والدرق والبلط والحوادث والحرب الهندية وأكر الفداوية، وهدموا قصر يوسف صلاح الدين ومحاسن الملوك والسلاطين ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباسقة.
وفيه عينت عساكر الى مراد بك وذهبوا إليه ببحر يوسف جهة الفيوم.
وفي يوم الخميس سادس عشره نودي بأن كل من تشاجر مع نصراني أو يهودي يشهد أحد الخصمين على الآخر ويطلبه لبيت صاري عسكر.
وفيه قتلوا شخصين وطافوا برؤوسهما وهم ينادون عليهما يوقولون هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب.
وفيه نبهوا الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن كتربة الأزبكية والرويعي ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة، والذي ليس له تربة بالقرافة يدفن ميته في ترب المماليك، وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر ونادوا أيضاً بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطحة عدة أيام، وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدوه، ويقولون إن العفونة تنحبس بأغوار الأرض فإذا دخل الشتاء وبردت الأغوار بسريان النيل والأمطار والرطوبات خرج ما كان منحبساً بالأرض من الأبخرة الفاسدة فيتعفن الهواء فيحصل الوباء والطاعون، ومن قولهم أيضاً إن مرض مريض لابد من الإخبار عنه فيرسلون من جهتهم حكيماً للكشف عليه إن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيه فيه.
وفي يوم السبت ثامن عشره ذهبت جماعة من القواسة الذين يخدمون الفرنساوية وشرعوا في هدم التراكيب المبنية على المقابر بتربة الأزبكية وتمهيدها بالأرض فشاع الخبر بذلك، وتسامع أصحاب الترب بتلك البقعة فخرجوا من كل حدب ينسلون وأكثرهم النساء الساكنات بحارات المدابغ وباب اللوق وكرم الشيخ سلامة والفوالة والناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب، الى أن صاروا كالجراد المنتشر ولهم صياح وضجيج، واجتمعوا بالأزبكية ووقفوا تحت بيت صاري عسكر فنزل لهم المترجمون واعتذروا بأن صاري عسكر لا علم له بذلك الهدم ولم يأمر به، وإنما أمر بمنع الدفن فقط فرجعوا الى أماكنهم ورفع الهدم عنهم.
وفيه كتبوا من المشايخ كتاباً ليرسلوه الى السلطان وآخر الى شريف مكة ثم إنهم بصموا منه عدة نسخ ولصقوها بالطرق والمفارق وصورته ملخصاً بعد الصدر وذكر ورودهم وقتالهم مع المماليك وهروبهم، وأن جماعة من العلماء ذهبت إليهم بالبر الغربي فأمنوهم وكذلك الرعية دون المماليك وذكروا فيه أنهم من أخصاء السلطان العثماني وأعداء أعدائه، وأن السكة والخطبة باسمه وشعائر الإسلام مقامة على ما هي عليه وباقية بمعنى الكلام السابق من قولهم إنهم مسلمون وإنهم محترمون القرآن والنبي وإنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم وأركبوا الماشي وأطعموا الجيعان وسقوا العطشان واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر وعملوا له شأناً ورونقاً استجلا بالسرور المؤمنين، وأنفقوا أموالاً برسم الصدقة على الفقراء، وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا أموالاً في شأن انتظامه واتفق رأينا ورأيهم على لبس حضرة الجناب المحترم آغا كتخدا بكر باشا والي مصر حالاً فاستحسنا ذلك لبقاء علقة الدولة العلية وهم أيضاً مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.
وفيه وقعت حادثة جزئية من جملة الجزئيات، وهو أن رجلاً صيرفياً بجوار حارة الجوانية وقع من لفظه أنه قال السيد أحمد البدوي بالشرق والسيد ابراهيم الدسوقي بالغرب يقتلان كل من يمر عليهما من النصارى وكان هذا الكلام بمحضر من النصارى الشوام فجاوبه بعضهم وأسمعه قبيح القول ووقع بينهما التشاجر، فقام النصراني وذهب الى دبوي وأخبره بالقصة فأرسل وقبض على ذلك الصيرفي وحبسه وسمر حانوته وختم على داره، وتشفع فيه المشايخ عدة مرات فأطلقوه بعد يومين وأرسلوه الى بيت الشيخ البكري ليؤدب هناك بالضرب أو يدفع خمسمائة ريال فرانسة فضرب مائة سوط وأطلق الى سبيله وكذلك أفرجوا عن بقية المسجونين.
وفي يوم الإثنين طاف أصحاب الدرك على الأخطاط والوكائل فكتبوا أسماءها وأسماء البوابين وأمروهم أن لا يسكنوا أحداً من الأغراب ولا يطلقوا أحداً بلا إذن من آغات متحفظان.
وفي يوم الثلاثاء عمل المولد الحسيني وكان من العزم تركه في هذا العام فدس بعض المنافقين دسيسة عند الفرنسيس وذلك أنه وقعت المذاكرة بأن من المعتاد أن يعمل المولد الحسيني بعد المولد النبوي، فقال بونابارته ولم لم يعملوه؟ فقال ذلك المنافق غرض الشيخ السادات عدم عمله إلا إذا حضر المسلمون، فبلغ شيخ السادات ذلك فشرع في عمله على سبيل الاختصار وحضر صاري عسكر وشاهد الوقدة ورجع داره بعد العشاء.
وفيه حضر علماء الإسكندرية وأعيانها وكذلك رشيد ودمياط وبقية البنادر باستدعاء صاري عسكر ليحضروا الديوان الشرعين فيه لترتيب النظام الذي سبقت الإشارة إليه.
وفيه سافر أيضاً جماعة من الفرنسيس الى جهة مراد بك ومن معه التقوا معهم وتراموا ساعة ثم انهزموا عنهم وأطمعوهم في أنفسهم فتتبعوهم الى أسفل جبل اللاهون ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالاً وتراموا معهم وأكمنوا لهم وثبتوا معهم وظهر عليهم المصريون وقتل من الفرنساوية مقتلة كبيرة.
وفيه سقطت البوابة المصنوعة ببركة الأزبكية المقابلة لباب الهواء التي كانوا وضعوها في يوم عيدهم وقد تقدم شرحها ووصفها، وسبب سقوطها أنهم لما منعوا الماء من دخوله للبركة وسدوا القنطرة كما تقدم علا الماء في أرض البركة وتخلخلت الأرض فسقطت تلك البوابة.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه نبهوا على المشايخ والأعيان والتجار ومن حضر من الأقطار بالحضور الى الديوان العام ومحكمة النظام بكرة تاريخه وذلك ببيت مرزوق بك بحارة عابدين، فلما أصبح يوم السبت أعادوا التنبيه بحضورهم بالديوان القديم ببيت قائد آغا بالأزبكية فتوجه المشايخ المصريخ والذين حضروا من الثغور والبلاد وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعاً موفوراً. فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطي القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط وفي المناقشة، فابتدر كبير المديرين في إخراج طومار آخر وناوله للترجمان فنشره وقرأه. وملخصه ومضمونه: الأخبار بأن قطر مصر هو المركز الوحيد وأنه أخصب البلاد وكان يجلب إليه المتاجر من البلاد البعيدة، وأن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في هذه الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن، إلا أن دولة الترك شددت في خرابه لأنها إذا حصلت الثمرة قطعت عروقها فلذلك لم يبقوا بأيدي الناس إلا اقدر اليسير وصار الناس لأجل ذلك مختفين تحت حجاب الفقر وقاية لأنفسهم من سوء ظلمهم، ثم إن طائفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت لأنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلاً وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ولم يعاملوا الناس بقسوة، وأن غرضهم تنظيم أمور مصر وإجراء خلجانها التي دثرت ويصير لها طريقان: طريق الى البحر الأسود، وطريق الى البحر الأحمر، فيزداد خصبها وريعها، ومنع القوي من ظلم الضعيف وغير ذلك، استجلا بالخواطر أهلها وإبقاء للذكر الحسن، فالمناسب من أهلها ترك الشغب وإخلاص المودة وإن هذه الطوائف المحضرة من الأقاليم يترتب على حضورها أمور جليلة لأنهم أهل خبرة وعقل، فيسألون عن أمور ضرورية ويجيبون عنها فينتج لصاري عسكر من ذلك ما يليق صنعه الى آخر ما سطروه من الكلام، قلت ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلاً وغباوة بعد قوله بعد ذلك ومع ذلم لم يتعرضوا لأحد الى آخر العبارة، ثم قال الترجمان نريد منكم مشايخ أن تختاروا شخصاً منكم يكون كبيراً ورئيساً عليكم ممتثلين أمره وإشارته، فقال بعض الحاضرين الشيخ الشرقاوي فقال نونو إنما ذلك يكون بالقرعة فعملوا قرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي، فقال حينئذ يكون الشيخ عبد الله الشرقاوي هو الرئيس، فما تم هذا الأمر حتى زالت الشمس فأذنوا لهم في الذهاب وألزموهم بالحضور في كل يوم.
وفيه وقعت كائنة الحاج محمد بن قيمو المغربي التاجر الطرابلسي وهو أنه كان بينه وبين بعض نصارى الشوام المترجمين مافسة، فأنهى الى عظماء الفرنسيس أنه ذو مال وأنه شريك عبد الله المغربي تابع مراد بك، فأرسلوا بطلبه فذهب الى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي لنسابة بينهما، فقال الشيخ للقواسة المرسلين بعد سؤالهم عن سبب طلبهم له فقالوا لدعوة ليست شرعية، فقال لهم في غد أحضروا خصمه ويتداعى معه فإن توجه الحق عليه ألزمناه بدفعه. فرجعت الرسل وتغيب الرجل لخوفه فبعد مضي مقدار نحو ساعة حضر نحو الخمسين عسكرياً من الفرنسيس الى بيت الشيخ وطالبوه به، فأخبرهم أنه هرب، فلم يقبلوا عذره وألحوا في طلبه ووقفوا ببنادقهم وأرهبوا فركب المهدي والدواخلي الى صاري العسكر وأخبروه بالقضية وبهروب الرجل، فقال ولأي شيء يهرب، فقالوا من خوفه، فقال لولا أن جرمه كبير لما هرب وأنتم غيبتموه، وأظهر الحنق والغيظ فلاطفاه واستعطفا خاطر الترجمان فكلمه وسكن غيظه، ثم سأل عن منزله ومخزنه فأخبراه عنهما، فقال نذهب معكما من يختم عليهما حتى يظهر في غد، فاطمأنوا لذلك ورجعوا عند الغروب وختموا على مخزنه ومنزله، فلما أصبح النهار فلم يظهر الرجل فأخذوا ما وجدوه فيهما من البضائع والأمانات.
وفي يوم الأحدذهبوا الى الديوان وعملوا مثل عملهم الأول حتى تمموا أسماء المنتخبين بديوان مصر من الثغور المشايخ والوجاقلية والقبط والشوام وتجار المسلمين وذلك الترتيب غير ترتيب الديوان السابق.
وفي يوم الإثنين اجتمعوا بالديوان ونادى المنادي في ذلك اليوم بالأسواق على الناس بإحضارهم حجج أملاكهم الى الديوان والمهلة ثلاثون يوماً فإن تأخر عن الثلاثين يضاعف المقرر ومهلة البلاد ستون يوماً، ولما تكامل الجميع شرع ملطي في قراءة المنشور وتعدد ما به من الشروط مسطور وذكر من ذلك أشياء، منها أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات وأمر المواريث، وتناقشوا في ذلك حصة من الزمن وكتبوا هذه الأربعة أشياء أرباب ديوان الخاصة يدبرون رأيهم في ذلك وينظرون المناسب والأحسن وما فيه الراحة لهم وللرعية، ثم يعرضون ما دبروه يوم الخميس وما بين ذلك له مهلة وانفض المجلس.
واستهل شهر جمادى الأولى يوم الخميس الموعود سنة 1213 واجتمعوا بالديوان ومعهم ما لخصوه واستأصلوه في الجملة، فأما أمر المحاكم والقضايا فالأولى إبقاؤها على ترتيبها ونظامها وعرفوهم عن كيفية ذلك، ومثل ذلك ما عليه أمر محاكم البلاد، فاستحسنوا ذلك إلا أنهم قالوا يحتاج الى ضبط المحاصيل وتقريرها على أمر لا يتعداه القضاة ولا نوابهم، فقرروا ذلك وهو أنه كان عشرة آلاف فما دونها يكون على كل ألف ثلاثون نصفاً، وإذا كان المبلغ مائة يكون على الألف خمسة عشر، فإن زاد على ذلك فعشرة، واتفقوا على تقرير القضاة ونوابهم على ذلك، وأما حجج العقارات فإنه أمر شاق طويل الذيل، فالمناسب فيه والأولى أن يجعلوا عليها دراهم من بادئ الرأي ليسهل تحصيلها ويحسن عليها السكوت ويكون المحصول أعلى وأدنى وأوسط، وبينوا القدر المناسب بتفصيل الأماكن وكتبوه وأبقوه حتى يرى الآخرون رأيهم فيه، وانفض الديوان وفي ذلك اليوم نودي في الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يوماً، وقيدوا على مشايخ الأخطاط والحارات والقلقات بالفحص والتفتيش، فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة الى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون، وكتبوا بذلك أوراقاً لصقوهم بحيطان الأسواق على عادتهم في ذلك.
وفيه حضر الى البيت البكري جم غفير من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعميان والمؤذنين وأرباب الوظائف والمستحقين من الزمني والمرضى بالمرستان المنصوري وأوقاف عبد الرحمن كتخدا، وشكوا من قطع رواتبهم وخبزهم لأن الأوقاف تعطل إيرادها، واستولى على نظارتها النصارى القبط والشوام جعلوا ذلك مغنماً لهم فواعدهم على حضورهم الديوان وينهوا شكواهم ويتشفع لهم فذهبوا راجعين.
وفيه قدمت مراكب من جهة الصعيد وفيها عدة من العسكر مجروحين.
وفيه وضعوا على التلال المحيطة بمصر بيارق بيضاً فأكثر الناس من اللغط ولم يعلموا سبب ذلك.
وفي يوم الأحد اجتمعوا في الديوان وأخذوا فيما هم فيه فذكروا أمر المواريث فقال ملطي مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث، فأخبروه بفروض المواريث الشرعية، فقال ومن أين لكم ذلك، فقالوا من القرآن، وتلوا عليهم بعض آيات المواريث فقال الإفرنج نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا بحسب تحسين عقولهم لأن الولد أقدر على التكسب من البنت، فقال ميخائيل كحيل الشامي وهو من أهل الديوان أيضاً نحن والقبط يقسم لنا مواريثنا المسلمون، ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فسايروهم ووعدوهم بذلك - وانفضوا وفي ذلك اليوم عزلوا محمد آغا المسلماني آغات مستحفظان وجعلوه كتخدا أمير الحاج واستقروا بمصطفى آغا تابع عبد الرحمن آغا مستحفظان سابقاً عوضاً عنه ونودي بذلك.
وفي يوم الإثنين عملوا لهم ديواناً وكتبوا لهم كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك.
وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأقل ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى، وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخاً للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها، ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور، فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم، ويقولون بصياح في الكلام نصر الله دين الإسلام، فذهبوا الى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب، وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوي بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط الصنادقية وذهب الى بيت القاضي، فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الأخطاط بالخلائق مزحومة، فبادروا إليه وضربوه وأثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه، فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا أطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية الى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها، ولم يتعدوا جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا أحجارها متاريس للكرنكة لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس، وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أحد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر، ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية أزالوهم، ذلك ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد، وامتدت أيديهم الى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية، ونهبوا دور النصارى الشوام والأروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام، وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات، وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات، وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب، وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحال مستمرين، وأما الإفرنج فإنهم أصبحوا مستعدين على تلال البرقية والقلعة واقفين وأحضروا جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبات ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين، وكان كبير الفرنسيس أرسل الى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين، حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر وجرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين، فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل، فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب ركب المشايخ الى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال، فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير واتهمهم في التقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب، وانقضى النهار وأقبل الليل وغلب على الظن أن القضية لهاذل وأما الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين، ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والإفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع، الى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا، وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا الى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا ارسالاً ركباناً ورجالاً ثم دخلوا الى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول. وتفرقوا بصحته ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه، وأصبح يوم الثلاثاء فاصطف منهم خرب بباب الجامع فكل من حضر للصلاةيراهم فيكر راجعاً ويسارع، وتفرقت طوائفهم بتلك النواحي أفواجاً واتخذوا السعي والطواف بها منهاجاً وأحاطوا بها إحاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب، وخرجت سكان تلك الجهة يهرعوا وللنجاة بأنفسهم طالبون، وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع، والفرنساوية لا يمرون بها إلا نادراً ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر، فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع، ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفاً مئيناً وألوفاً فإن مر بهم أحد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه. ورفعوا القتلى والمطروحين من الإفرنج والمسلمين، ووقف جماعة من الفرنسيس ونظفوا مراكز المتاريس وأزالوا ما بها من الأتربة والأحجار المتراكمة ووضعوها في ناحية لتصير طريق المرور خالية، وتحزبت نصارى الشوام وجماعة أيضاً من الأروام الذين انتهبت دورهم بالحارة الجوانية ليشكوا لكبير الفرنسيس ما لحقهم من الزرية واغتنموا الفرصة في المسلمين وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين وضربوا فيهم المضارب وكأنهم شاركوا الإفرنج في النوائب وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لديهم إلا لكونهم منسوبين إليهم، مع أن المسلمين الذين جاوروهم نهبهم الذعر أيضاً وسلبوهم وكذلك خان الملايات المعلوم الذي عند باب حارة الروم فيه بضائع المسلمين وودائع الغائبين، فسكت المصاب على غصته واستعوض الله في قضيته لأنه إن تكلم لا تسمع دعواه ولا يلتفت الى شكواه، وانتدب برطلمين للعسس على من حمل السلاح أو اختلس وبث أعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم وما ينهيه النصارى من أبغاضهم فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده. ويأخذ منهم الكثير ويركب في موكبه ويسير وهم موثوقون بين يديه بالحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال فيودعونهم السجونات ويطالبونهم بالمنهوبات ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب، ويدل بعضهم على بعض فيضعون على المدلول عليهم أيضاً القبض، وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الآغا وتجبر في أفعاله وطغى. وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، وطال بالكفرة بغيهم وعناديهم ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع، وذهبوا لبيت صاري عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولاطفوه والتمسوا منه أماناً كافياً وعفواً ينادون به باللغتين شافياً لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية، فوعدهم وعداً مشوباً بالتسويف وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام فغالطوه عن تلك المقاصد، فقال على لسان الترجمان نحن نعرفهم بالواحد فترجوا عنده في إخراج العسكر من الجامع الأزهر، فأجابهم لذلك السؤال وأمر بإخراجهم في الحال، وأبقوا منهم السبعين أسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين. ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري، وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر الى جهة الشام وفحصوا عليهم فلم يجدوه، وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا، واتهم أيضاً ابراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعاً من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخيفين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الآغا. اري عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولاطفوه والتمسوا منه أماناً كافياً وعفواً ينادون به باللغتين شافياً لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية، فوعدهم وعداً مشوباً بالتسويف وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام فغالطوه عن تلك المقاصد، فقال على لسان الترجمان نحن نعرفهم بالواحد فترجوا عنده في إخراج العسكر من الجامع الأزهر، فأجابهم لذلك السؤال وأمر بإخراجهم في الحال، وأبقوا منهم السبعين أسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين. ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري، وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر الى جهة الشام وفحصوا عليهم فلم يجدوه، وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا، واتهم أيضاً ابراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعاً من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخيفين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الآغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشره توجه شيخ السادات وباقي المشايخ الى بيت صاري عسكر الفرنسيين وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الآغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم وسعوا بالكم ولا تستعجلوا فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادوا في الأسواق ولا أحد يشوش على أحد مع استمرار القبض على الناس وكبس البيوت بأدنى شبهة ورد بعضهم الأمتعة التي نهبت للنصارى.
وفيه توسط القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صاري عسكر فاختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحاً وآلات حرب ورتبهم عسكراً ورئيسهم عمر المذكور وخرجوا وأمامهم البطل الشامي على عادة عسكر المغاربة، وسافروا جهة بحري بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضاً مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربواهم وقاتلوهم، فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشماً وقتلوا كبيرها المسمى بابن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئاً كثيراً جداً وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخاً عوضاً عن أبيهم، وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى إشاراتهم في مصافاتهم، فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفاً وبأيديهم بناقدهم فيشير إليهم بألفاظ لغتهم كأن يقول مردبوش، فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش فيمشون صفوفاً الى غير ذلك.
وفيه سافر برطلمين الى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين الى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيلها ورجع بعد أيام.
وفي يوم الأربعاء خاطب الشيخ محمد المهدي صاري عسكر في أمر ابراهيم أفندي كاتب البهار وتلطف به بمعونة بوسليك المعروف بمدير الحدود وهو عبارة عن الروزنامجي ونقله من بيت الآغا الى داره وطلبوا منه قائمة كشف عما يتعلق بالمماليك بدفتر البهار.
وفي يوم الخميس سافر عدة من المراكب نحو الأربعين بها عسكر الفرنسيس الى جهة بحري.
وفي ليلة السبت رابع عشرينه حضر هجان من ناحية الشام وعلى يده مكاتبات وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا الى كتخدائه مصطفى بك ومكتوب من ابراهيم بك خطاباً للمشايخ، وذلك كله بالعربي، ومضمون ذلك بعد براعة الاستهلال والآيات القرآنية والأحاديث والآثار المتعلقة بالجهاد ولعن طائفة الإفرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم ونحيلهم، وكذلك بقية المكاتبات بمعنى ذلك، فأخذها مصطفى بك كتخدا وذهب بها الى صاري عسكر، فلما اطلع عليها قال هذا تزوير من ابراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة، وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن والياً بالشام ولا مصر لأن والي الشام ابراهيم باشا، وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام فأنا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة. وورد خبر أيضاً بانفصال محمد عزت عن الصدارة وعزل كذلك أنفار من رجال الدولة، وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات، وبنوا أبنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصيناً زائداً، وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا، وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة انبابة الرمة ومسجد المقس المعروف الآن بأولاد عنان على الخليج الناصري بباب البحر، وقطعوا نخيلاً كثيرة وأشجار الجيزة التي عند أبي هريرة قطعوها وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير ذلك، وقطعوا نخيل جهة الحلي وبولاق وخربوا دوراً كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك.
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس الى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم، فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم الى بيت قائمقام بدرب الجماميز وهو الذي كان به دبوي قائمقام المقتول وسكنه بعده الذي تولى مكانه، فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم وصعدوا بهم الى القلعة فسجنوهم الى الصباح، فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة، وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياماً وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ الى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم الى صاري عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظناً منهم أنهم في قيد الحياة، فركب معهم إليه وكلموه في ذلك، فقال لهم الترجمان اصبروا ما هذا وقته وتركهم وقام ليذهب في بعض أشغاله، فنهض الجماعة أيضاً وركبوا الى دورهم.
وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا الى الهروب، وذهبوا الى البيوت والمساجد واختفت آراؤهم، ورأوا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم، فذهب بعض المشايخ الى صاري عسكر وأخبروه بذلك وتخوف الناس فأرسل إليهم، وأمرهم بالذهاب فذهبوا، وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الآغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان، وسكن الحال وقيل إن بعض كبرائهم حضر عند القلق الساكن بالمشهد وجلس عنده حصة هؤلاء كانوا أتباعه ووقفوا ينتظرونه، ولعل ذلك قصداً للتخويف والإرهاب خشية من قيام فتنة لما أشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا أوراقاً وألصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس.
وفيه شرعوا في إحصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه.
وفيه أيضاً قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة وهي التي كانت تركت وسومح أصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على إبقائها وكذلك دروب الحسينية، فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها الى ما جمعوه من البوابات بالأزبكية، ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها ورفعوا بعضها على العربات الى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطباً للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها الى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع.
وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ الى صاري عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قتل أبوه وكان معوقاً ببيت البكري فشفعهم فيه وأطلقوه.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1213.
فيه كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ وأرسلوها الى البلاد وألصقوا منها نسخاً بالأسواق والشوارع.
وصورتها: نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ الى الله من الساعين في الأرض بالفساد، نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا أصحاباً وأحباباً لسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته. وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة الى الفقراء والمساكين ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد، وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا من آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم وادفعوا الخراج الذي عليكم الدين النصيحة والسلام.
وفيه أمروا بقية السكان على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليسكنوا بها جماعتكم المتباعدين منهم ليكون الكل في حومة واحدة، وذلك لما دخلهم من المسلمين حتى أن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخولهم البلد لا يمشون به أصلاً إلا لغرض، والذي لم يكن معه سلاح يأخذ بيده عصا أو سوطاً أو نحو ذلك، وتنافرت قلوبهم من المسلمين وتحذروا منهم وانكف المسلمون عن الخروج والمرور بالأسواق من الغروب الى طلوع النهار، ومن جملة من انتقل من الدرب الأحمر الى الأزبكية كفرلي المسمى بأبي خشبة وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح، ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة، وكان من جملة المشار إليهم فيهم والمدبر لأمور القلاع وصفوف الحروب ولهم به عناية عظيمة واهتمام زائد، كان يسكن ببيت مصطفى كاشف طرا وفي وقت الحادثة هجمت على الدار العامة ونهبوها وقتلوا منها بعض الفرنساوية وفر الباقون. فأخبروا من بالقلعة الكبيرة، فنزل منهم عدة وافرة وقف بعضهم خارج الدار بعد أن طردوا المزدحمين ببابها وضربوهم بالبندق، ودخل الباقون فقتلوا من وجدوه بها من المسلمين وكانوا جملة كثيرة، وكان بتلك الدار شيء كثير من آلات الصنائع والنظارات الغريبة والآلات الفلكية والهندسية والعلوم الرياضية وغير ذلك مما هو معدوم النظير كل آلة لا قيمة لها عند من يعرف صنعتها ومنفعتها، فبدد ذلك كله العامة وكسروه قطعاً، وصعب ذلك على الفرنسيس جداً وقاموا مدة طويلة يفحصون عن تلك الآلات ويجعلون لمن يأتيهم بها عظيم الجعالات. وممن قتل في وقعة هذه الدار الشيخ محمد الزهار.
وفي خامسه أفرجوا عن ابراهيم أفندي كاتب البهار وتوجه الى بيته.
وفي ثامنه قتلوا أربعة أنفار من القبط منهم إثنان من النجارين قيل إنهم سكروا في الخمارة ومروا في سكرهم وفتحوا بعض الدكاكين وسرقوا منها أشياء، وقد تكرر منهم ذلك عدة مرار فاغتاظ لذلك القبطة.
وفيه كتبوا عدة أوراق وأرسلوا منها نسخاً للبلاد وألصقوا منها بالأخطاط والأسواق، ذلك على لسان المشايخ أيضاً ولكن تزيد صورتها عن الأولى.
وصورتها نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة، نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين، ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين أن ابراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات الى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات، وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان. وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزائد واغتاظوا غيظاً شديداً من علماء مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم وتركوا عيالهم وأوطانهم، فأرادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية، وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بأنها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهاراً مع أغوات معينين، ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائماً يحبون المسلمين وملتهم ويبغضون المشركين وطبيعتهم، أحباب لمولانا السلطان قائمون بنصرته وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته يحبون من والاه ويبغضون من عاداه، ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة من أجل عداوة المسكوف القبيحة الرديئة. والطائفة الفرنساوية يعادون حضرة السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله تعالى ولا يبقون منهم بقية، فننصحكم أيها الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية فيحصل لكم الضرر والهلاك، ولا تسمعوا كلام المفسدين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين، لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحداً في دين الإسلام ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، ويرفع عن الرعية سائر المظالم ويقتر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثه الظلمة من المغارم، فلا تعلقوا آمالكم بابراهيم ومراد وراجعوا الى مولاكم مالك الملك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي ثالث عشره قتلوا شخصين عند باب زويلة أحدهما يهودي لم يتحقق السبب في قتلهما.
وفيه أخرجوا من بيت نسيب ابراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة.
وفي خامس عشره حضر جماعة من الفرنساوية بباب زويلة وفتحوا بعض دكاكين السكرية وأخذوا منها سكراً وضاع على أصحابه.
وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه بإحضارهما فأحضرهما بعد الإنكار والحجد عدة مرار فوجدوا ضمنهما أسلحة وجواهر وسبح لؤلؤ وخناجر مجوهرة وغير ذلك.
وفي عشرينه كتبوا عدة أوراق مطبوعة وألصقوها بالأسواق مضمونها أن في يوم الجمعة حادي عشرينه قصدنا أن نطير مركباً ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية، فكثر لغط الناس في هذا كعادتهم فلما كان ذلك اليوم قبل العصر تجمع الناس والكثير من الإفرنج ليروا تلك العجيبة، وكنت بجملتهم، فرأيت قماشاً على هيئة الأدية على عمود قاتم وهو ملون أحمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال وفي وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان، وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها الى الدائرة وهي مشدودة ببكر وأحبال وأطراف الأحبال بأيدي أناس قائمين بأسطحة البيوت القريبة منها، فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة فصعد دخانها الى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل البكرة وطلب الدخان الصعود الى مركزه، فلم يجد منفذاً فجذبها معه الى العلو فجذبوها بتلك الأحبال مساعدة لها حتى ارتفعت عن الأرض فقطعوا تلك الحبال فصعدت الى الجو مع الهواء ومشت هنيهة لطيفة ثم سقطت طارتها بالفتيلة وسقط أيضاً ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة من نسخ الأوراق المبصومة، فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة ويجلس فيها أنفار من الناس ويسافرون فيها الى البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات، بل ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والأفراح.
وفي تلك الليلة طاف منهم أنفار بالأسواق ومعهم مقاطف بها لحوم مسمومة فأطعموها للكلاب فمات منها جملة كثيرة، فلما طلع النهار وجد الناس الكلاب مرمية وطرحى بالأسواق وهي موتى فاستأجروا لها من أخرجها الى الكيمان، وسبب ذلك أنهم لما كانوا يمرون في الليل وهم سكوت كانت الكلاب تنبحهم وتعدو خلفهم ففعلوا بها ذلك وارتاحوا هم والناس منها.
وفي خامس عشرينه سافر عدة عساكر الى جهة مراد بك وكذلك الى جهة كرداسة بسبب العربان وكذلك الى السويس والصالحية وأخذوا جمال السقائين برواياها وحميرهم ولكن يعطونهم أجرتهم، فشح الماء وغلا وبلغت القربة عشرة أنصاف فضة.
وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك وانقضى هذا الشهر وما حصل به من الحوادث الكلية والجزئية التي لا يمكن ضبطها لكثرتها.
منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية على هيئة مخصومة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة وجعلوا على كل من يدخل إليه قدراً مخصوصاً يدفعه أو يكون مأذوناً وبيده ورقة.
ومنها أنهم هدموا وبنوا بالمقياس والروضة وهدموا أماكن بالجيزة ومهدوا التل المجاور لنقطرة الليمون وجعلوا في أعلاه طاحوناً تدور في الهواء عجيبة وتطحن الأرادب من البر وهي بأربعة أحجار وطاحوناً أخرى بالروضة تجاه مساطب النشاب، وهدموا الجامع المجاور لقنطرة الدكة وشرعوا في ردم جهات حوالي بركة الأزبكية وهدموا الأماكن المقابلة لبيت صاري عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة، وهدموا الأماكن المقابلة لها من الجهة الأخرى والجنائن التي خلف ذلك وقطعوا أشجارها، وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدأ من حد بيت صاري عسكر الى قنطرة المغربي وجددوا القنطرة المذكورة، وكانت آلت الى السقوط وفعلوا بعدها كذلك على الوضع والنسق بحيث صار جسراً عظيماً ممتداً ممهداً مستوياً على خط مستقيم من الأزبكية الى بولاق قسمين: قسم الى طريق أبي العلا وقسم يذهب الى جهة التبانة وساحل النيل وبطريقة الطريق المسلوكة الواصلة من طريق أبي العلا وجامع الخطيري الى ناحية المدابغ، وحفروا في جانبي ذلك الجسر من مبدئه الى منتهاه خندقين وغرسوا بجانبه أشجاراً وسيسباناً، وأحدثوا طريقاً أخرى فيما بين باب الحديد وباب العدوى عند المكان المعروف بالشيخ شعيب حيث معمل الفواخير، وردموا جسراً ممتداً ممهداً مستطيلاً يبتدي من الحد المذكور وينتهي الى جهة المذبح خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول وقطعوا جانباً كبيراً من التل الكبير المجاور لنقطرة الحاجب، وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي وقطعوا أشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي وأشجار الجسر أيضاً والأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس، وساروا على المنخفض بحيث صارت طريقاً ممتدة من الأزبكية الى جهة قبة النصر المعروفة بقبة العزب جهة العادلية على خط مستقيم من الجهتين. وقيدوا بذلك أنفاراً منهم يتعاهدون تلك الطرق ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الاعتدال بكثرة الدوس وحوافر الخيول والبغال والحمير وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن، ولم يسخروا أحداً في العمل بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة ويصرفونهم من بعد الظهيرة ويستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل وقلة الكلفة، كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل تراباً أو طيناً أو أحجاراً من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان، ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة الى محل العمل فيميلها بإحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة، وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع وغالب الصناع من جنسهم ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة، وجعلوا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية قلعة ومنارته برجاً ووضعوا على أسواره مدافع وأسكنوا به جماعة من العسكر، وبنوا في داخله عدة مساكن تسكنها العسكر المقيمة به وكان هذا الجامع معطل الشعائر من مدة طويلة وباع نظاره منه أنقاضاً وعمداً كثيرة.
ومنها أنهم أحدثوا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية أبنية وكرانك وأبراجاً ووضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه، وهدموا عدة دور من دور الأمراء وأخذوا أنقاضها ورخامها لأبنيتهم وأفردوا للمديرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، مثل بيت قاسم بك وأمير الحاج المعروف بأبي يوسف وبيت حسن كاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخفره وصرف عليه أموالاً عظيمة من مظالم العبادة، وعند تمام بياضه وفرشه حدثت هذه الحادثة ففر مع الفارين وتركه فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم، فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها، فيحضرها له الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر، وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول الى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصاً إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعاً للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الأفكار، ولقد ذهبت إليهم مراراً وأطلعوني على ذلك. فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظراً الى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف، وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي الأخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه من صخرة بيت المقدس، وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني، وكذلك صورة الأئمة المجتهدين وبقية الخلفاء والسلاطين ومثال اسلامبول وما بها من المساجد العظام كأياصوفية وجامع السلطان محمد وهيئة المولد النبوي وجمعية أصناف الناس لذلك وكذلك السلطان سليمان وهيئة صلاة الجمعة فيه وأبي أيوب الأنصاري وهيئة صلاة الجنازة فيه وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد والصور والأشكال والأفلام المرسومة وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الأثقال وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم، ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض ويعبرون عنه بقولهم شفاء شريف والبردة للبوصيري ويحفظون جملة من أبياتها، وترجموها بلغتهم، ورأيت بعضهم يحفظ سوراً من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق، ويدأبون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفهما واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت الى لغتهم في أقرب وقت، وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه، وهي تركب ببراريم مصنوعة محكمة كل آلة منها عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة، بحيث إذا ركبت صارت آلة كبيرة أخذت قدراً من الفراغ، وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها الى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير. وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظراتها وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن وغير ذلك، وأفردوا لجماعة منها بيت ابراهيم كتخدا السناري وهم المصورون لكل شيء ومنهم اريجوا المصور وهو يصور صور الآدميين تصويراً يظن من يراه أنه بارز في الفراغ بجسم يكاد ينطق، حتى أنه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان، وعلقوا ذلك في بعض مجالس صاري عسكر، وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمناً طويلاً. صاري عسكر، وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمناً طويلاً.
وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين وصناع الدقائق وسكن الحكيم روياً ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك، ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية، وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح وقدوراً عظيمة وبرامات وجعل له مكاناً أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وبها كذلك عدة من الأطباء والجرايحية.
وأفردوا مكاناً في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع وآلات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الأرمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات واستخراج المياه الجلاءة والحلالة وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات علي الرفوف والسدلات وبداخلها أنواع المستخرجات.
ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المفيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئاً في كأس ثم صب عليها شيئاً من زجاجة أخرى فعلا المآن وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجراً أصفر، فقلبه على البرجات حجراً يابساً أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجراً أزرق وبأخرى فجمد حجراً أحمر ياقوتياً، وأخذ مرة شيئاً قليلاً جداً من غبار أبيض وضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه فضحكوا منا، وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة الفم فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص وأدخل معها أخرى على غير هيئتها وأنزلهما في الماء وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما، وأتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضاً، وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكيمة تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع، ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاجة فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة، وإذا مسك علقاتها شخص ولو خيطاً لطيفاً متصلاً بها ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى ارتج دنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة ومن لمس هذا اللامس أو شيئاً من ثيابه أو شيئاً متصلاً به حصل له ذلك ولو كانوا ألفاً أو أكثر، ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
وأفردوا أيضاً مكاناً للنجارين وصناع الآلات والأخشاب وطواحين الهواء والعربات واللوازم لهم في أشغالهم وهندساتهم وأرباب صنائعهم، ومكاناً آخر للحدادين وبنوا فيه كوانين عظاماً وعليها منافيخ كبار يخرج منها الهواء متصلاً كثيراً بحيث يجذبه النافخ من أعلى بحركة لطيفة، وصنعوا السندانات والمطارق العظام لصناعات الآلات من الحديد والمخارط وركبوا مخارط عظيمة لخرط القلوزات الحديد العظيمة ولهم فلكات مثقلة يديرها الرجال للمعلم الخراط للحديد بالأقلام المتينة الجافية، وعليها حق صغير معلق مثقوب وفيه ماء يقطر على محل الخرط لتبريد النارية الحادثة من الاصطكاك، وبأعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل البركارات وآلات الساعات والآلات الهندسية المتقنة وغير ذلك.